كنت دائمًا أُضفي لمسة سحرية وشاعرية على تفاصيل حياتي اليومية، أستمتع بالأشياء البسيطة وأمنحها معنى أعمق وأكبر مما تبدو عليه، كأن أحتسي كوبًا من الشوكولاتة الساخنة في يوم ممطر، أو أقرأ كتابي المفضل بين الأشجار وتحت أشعة الشمس، أو أزيّن غرفتي كأنها لوحتي الفنية بكل تفاصيلها الدقيقة، لأعزز شعوري بالرضا والامتنان تجاه الأمور الصغيرة في عالمي، وأشعر بكل ماهو حولي من مشاعر وأحاسيس وأفكار.
لاحقًا، اكتشفت أن هذا التوجّه يُطلق عليه بالإنجليزية Romanticism، ويُعرف بالعربية بـالرومانتيكية أو الرومانسية، وهو مصطلح نشأ في أوروبا وتحديدًا في فرنسا في القرن الثامن عشر، كردّة فعل على هيمنة العقل والمنطق كمصدر وحيد للمعرفة، مع تجاهل التجارب والعواطف الشخصية والاجتماعية، في تلك الفترة، برزت الثورة الصناعية وتعمّقت الفروقات الطبقية، وساءت أحوال الناس، فباتوا بحاجة إلى بصيص من الأمل يتمسكون به وسط الفوضى.
ظهرت حينها الثورة الرومانتيكية كحركة فنية وأدبية عبّرت عن مشاعر الإنسان وأحلامه، وامتد تأثيرها إلى الأدب والفنون والموسيقى والتعليم والمسرح. استمد الرومانسيون إلهامهم من الطبيعة، وازدهرت ثقافة التمثيل على المسرح، وعروض الأزياء، والقصص التي جسّدت المشاعر والتجارب البشرية العميقة، كانت ثورة مليئة بالإبداع والأفكار التي لا تزال خالدة حتى يومنا هذا.
برز في هذا التيار عدد من الكتّاب الذين عبّروا عن الحزن، الألم، والحنين بصدق وعمق، من أبرزهم فيكتور هوجو في روايتيه البؤساء وأحدب نوتردام، حيث صوّر معاناة الإنسان ومجّد العدالة، وكذلك شاتوبريان الذي يُعد من رواد المدرسة الرومانسية في الأدب الفرنسي، وفولتير الذي ساهم في نشر أدب شكسبير في أنحاء أوروبا
وفي الأدب العربي، تأثرت مدرسة الديوان في نقدها للأدب العربي، وخاصة مسرحيات شوقي ونثر المنفلوطي، بالمبادئ الرومانتيكية، خصوصًا تلك التي ظهرت في الأدب الإنجليزي. وقد تركت هذه التيارات الأدبية أثرًا واضحًا في الشعر العربي الحديث، فبرز شعراء رومانسيون تميزوا برقة مشاعرهم وعمق خيالهم، من أبرزهم إبراهيم ناجي وعلي محمود طه وجبران خليل جبران، وغيرهم ممن أبدعوا في تصوير الأحاسيس والهموم الإنسانية في قالب شاعري حالِم.
وإضافة إلى الكتب والمؤلفات، بلغ الفن التشكيلي ذروته في هذة الحقبة، ظهر رسامون عدة اعتمدوا على فرشاتهم والوانهم الفنية لإظهار الفن بصورته في ذلك الوقت، ومن بين تلك اللوحات:

وانتشرت الحركة الرومانتيكية في ارجاء العالم، وغيرت الكثير من جوانب الأدب والفن والثقافة لأنها حظت بإعجاب كثير من الناس؛ كونها تلامس القلب والروح وصوت المجتمع، لكن مع منتصف القرن العشرين، تعرّضت الرومانتيكية لنقد حاد كشف ضعفها في مواجهة الواقع، فتراجعت لصالح اتجاه جديد أكثر وعيًا وعقلانية، ظهرت حينها رومانتيكية جديدة سعت لتحقيق توازن بين العاطفة والعقل، لتُقدّم نظرة أكثر نضجًا للحياة والفن، فالعالم بطبيعته يقوم على التوازن، وأي خلل بسيط قد يؤدي للانهيار، وعلى مرّ التاريخ، فشلت كل مدرسة فكرية اعتمدت على بُعد واحد وأقصت غيره، فقد بالغ الغرب في تعظيم العقل حتى ساد الفراغ الروحي، بينما غرق الشرق في الروحانية حتى لامس الخرافة.
تجسدت الحركة الرومانتيكية في حياتنا الحاضرة بالاشياء البسيطة، كالاهتمام بالتفاصيل التي لا يلاحظها الكثير، مثل رقصة غبار الشمس التي تسبح في الضوء المتسلل من النوافذ، أو الزهرة الصغيرة التي تحاول الخروج بين أرصفة الطرق، وذوبان الشموع ببطء بينما تنشر عطرها ويضيء جوفها، فالرومانتيكية لا تعني العشق فقط، بل تعني الشعور العميق بالحياة وتقدير الجمال المختبئ خلف العادي والمألوف.
بقلم: حصَّة
🤍أحسنتِ النشر موضوع جميل