قد يتشاجر الإنسان مع إنسانٍ مثله، يصرخ، يشتم، يضرب، وربما يصل إلى القتل. لكن بعد كل ذلك، يترك الجثة. لا يفكر في مسّها مرة أخرى. فمهما بلغ الغضب، يبقى هناك حدٌّ أخلاقي يكبح الوحش بداخلنا. لكن ماذا لو وسوس له الشيطان بأن يأكل من لحم ضحيّته؟ كنوع من الانتقام؟ أو ماذا لو لم يكن القتل هو الهدف، بل كان الهدف من البداية هو أكل لحم إنسان آخر؟ أن يترك العالم بما فيه من غذاء وطعام، ويتجه إلى جسد بشري حيّ أو ميت، ويأكله؟!
آكلي لحوم البشر (Cannibalism) هم أفراد ارتكبوا فعلًا غريبًا وصادمًا، لأسباب متعددة، وفي ظروف مختلفة، وعلى مرّ التاريخ. الإنسان البدائي لم تكن لديه قوانين تردعه، ولا أنظمة تنظّم غرائزه. كان يأكل الإنسان الآخر كجزء من طقوس أو بدافع البقاء، بلا حدود للعقل.
في أوروبا في القرن الخامس عشر، كان يُعتقد أن أكل لحم الإنسان يشفي الجروح والنزيف والصرع. لجأ الناس إلى طحن المومياء، وشرب الدماء، حتى ازدادت الحاجة واتجهوا لنبش القبور القديمة لاستخراج الجثث وتحويلها إلى “دواء” يُستهلك لاحقًا.
وعندما وصل كريستوفر كولومبوس إلى جزيرة غوادلوب، اكتشف قبائل من الكاريب كانوا يأكلون سجنائهم، جزء من ثقافتهم القتالية.
أما في الصين قبل ألفي عام، فقد تبرع الأبناء والفتيات بقطع من لحمهم لآبائهم، إيمانًا بأنها تُسهم في شفائهم. لم يكن ذلك فعلًا فرديًا شاذًا، بل ممارسة اجتماعية واسعة. احيانًا يُجبر الابناء عليها وكأنها واجب شرعي.
وفي بعض المجتمعات، كانت الجنازة تنتهي بـ”تكريم” الميت من خلال أكل قطعة من جسده، اعتقادًا بأن جزءًا منه سيبقى حيًا في أجسادهم.
قبائل قديمة كثيرة مارست هذا السلوك، مثل قبيلة الآغوري في الهند، التي كانت تُحرق الجثث وتجمع البقايا وتستخدمها في طقوس دينية غريبة، يصل بها الحال إلى شرب الدماء من الجماجم، زاعمين أن في ذلك تنويرًا روحيًا. وماهو الا إنعكاس لعقليتهم الغير متحضرة.
وفي بريطانيا، اكتُشفت في سبعينيات القرن العشرين عظام بشرية عمرها 4000 عام في حفرة عميقة، أظهرت علامات أكل لحوم بشرية، في سياقات غامضة يُعتقد أنها كانت ضحايا شعائرية أو طائفية.
لكن ليست الطقوس الدينية فقط هي السبب. الجوع أيضًا يمكن أن يدفع الإنسان إلى تخطي حدود الأخلاق. عندما لا يجد الانسان أي كسرة خبز ولا طعام ولا غذاء ويكون في مكان منعزل وبجانبه جثه صديقه أو اخيه أو ابيه، في عام 1972، تحطمت طائرة تابعة لسلاح الجو الأوروغوياني في جبال الأنديز المتجمدة. نجا 16 شخصًا فقط من أصل 40 راكبًا، بعد أن نفد طعامهم، واضطروا لأكل جثث المتوفين. بعد 72 يومًا من الرعب، تم إنقاذهم. يصعب تخيّل صدمتهم النفسية بعد معرفتهم أنهم بقوا أحياء بأكل رفاقهم.
وفي مجاعة الصين الكبرى عام 1959، حين ضرب الجفاف والفيضانات البلاد، انخفض الإنتاج الزراعي بشكل حاد، وانتشر الجوع والموت، وسُجّلت حالات لأكل لحوم البشر كوسيلة للبقاء.
وفي الحروب، ومع الحصار، يصبح الإنسان غريزيًا. أثناء حصار لينينغراد عام 1941، ظهرت تقارير توثق أكل لحوم بشر، وتؤكد العثور على عظام وجثث مشوهة أُكلت من قبل الناجين.
اضافة إلى الجانب الاخلاقي، وأنه أمر محرم في ديانات عديدة، فأن آكل لحم البشر يصيب امراض اكثر من منفعته لسد الجوع، فقد رجح الطب الحديث أن له مخاطر منها:
• انتشار البكتيريا والعدوى
• تلف الأنسجة
• وأخطرها مرض كورو (Kuru)، الناتج عن أكل الدماغ البشري، والذي يصيب الجهاز العصبي المركزي ويؤدي إلى شلل مميت.
أما في التحليل النفسي، فهناك عدة نظريات تفسر هذا السلوك الشاذ. بعضهم يعزوه إلى صدمات في الطفولة، أو اضطرابات في الهوية أو الشهوة، أو حالات انفصام (Schizophrenia) وهلاوس سمعية وبصرية تجعل صاحبها يفقد صلته بالواقع.
من أبرز الأمثلة هو جيفري دامر (Jeffrey Dahmer)، القاتل الأمريكي الذي قتل ضحاياه، واحتفظ بجثثهم وأكل أجزاءً منها، بعدما بدأ في شبابه بتشريح الحيوانات.
وكذلك أندريه تشيكاتيلو ( Andrei Chikatilo) السوفيتي، الذي قتل 52 امرأة وطفلًا وأكل من لحومهم، في سلسلة جرائم بشعة زلزلت المجتمع.
كما أن هناك من يأكل لحم نفسه، وهو ما يُعرف بـالأوتوكانيباليزم (Autocannibalism). يبدأ الأمر بلعق الدم أو قضم الأظافر، ثم يتطور إلى أكل أجزاء من الجسد بعد بترها، أو جرحها عمدًا. تصرف يبدو غريبًا، لكنه يحمل خلفه أمراضًا نفسية عميقة.
ومن أغرب القضايا القانونية، هي قصة آرمين مايفيس (Armin Meiwes)، عالم الكمبيوتر الألماني الذي نشر إعلانًا يطلب فيه متطوعًا ليأكله! وبالفعل، وجد شخصًا وافق، وارتكب جريمته. لكن رغم رضا الضحية، تم القبض عليه والحكم عليه بالسجن المؤبد.
لم تقبل ألمانيا ولا قوانينها هذا الفعل، لأن الحق في الحياة والسلامة الجسدية لا يمكن التنازل عنه، ولا يمكن للمجتمع الإنساني أن يتهاون مع أفعال كهذه.
ولم ينجُ هذا الموضوع من عدسة الأدب والسينما.
أشهر من جسّد شخصية “آكل لحم بشر” هو الدكتور هانيبال ليكتر، الذي ابتكره الكاتب توماس هاريس، وظهر لأول مرة في رواية التنين الأحمر (Red Dragon)، ثم في فيلم “صمت الحملان”.
هانيبال، بشخصيته الهادئة والمرعبة، جمع بين الذكاء والوحشية، ترك اثرًا كبيرًا في قلوب المشاهدين، وأصبح رمزًا ثقافيًا للشرّ العقلي، الذي يتخفى خلف الهدوء والأناقة.

حين يقترف الانسان هذا الفعل، فهو لا يرتكب امرًا مُجرمًا فحسب، بل يتجاوز الحدود الإنسانية والاخلاقية، تنكسر فيه المبادئ والقيم، فعل يعبر عن هشاشة النفس البشرية أمام الغرائز، والوحش الكامن فينا… ذاك الذي نأمل ألا نستيقظه أبدًا
بقلم: حصَّة
بعض الناس عقل الحيوان افضل من عقله الحمدلله الذي اكرمنا بالإسلام
مقال رائع ! يُذكرني بكتاب العطر لباتريك زوسكيند. يُبين في روايته أن الجوع و الرغبة لا يحتاجان إلى الأخلاق، و أن البشر يُمكنهم تبرير أي شيء حين يطغى عليهم الجوع، الحسي و الجسدي و العاطفي.
كتب في سطره الأخير بعدما بدأ الجمهور بأكل البطل "لم يشعروا بالخجل، ابتسموا، لأنهم فعلوا ذلك بدافع الحب"
أمر قبيح و لكن حقيقي، كما ذكرتِ الأمثلة في مقالتك.